Saba Innab

عن مجاراة مخيال الأرض





مقدمة:


1
على سبيل المثال، مفاهيم إعادة النظر، والتخلص من معرقة ما، وإعادة التفكير وغيرها من النظريات النقدية.

2
"الخريطة، المجسم، الشيء: عن البنية التحتية للسرديات المكانية،" هو طرح و خطة أومساقات دراسية تم تطويرها والعمل عليها منذ 2017، وأخذت أشكالًا عدة، منها تقديمها كمساق في جامعة
بريمن للفنون- ألمانيا، 2022-2023.

3
  أيضاُ عبر استعارة طريقة الحبك النقدي للتواريخ والأرشيفات - التي قدمتها سيديا هارتمان، على سبيل المثال وليس الحصر.

هل تعد "إعادة التفكير"1 كمفهوم تحرري نقدي ضمن منظومة ما، منهجًا يحافظ على الهزيمة المستمرة والأمر الواقع؟  أي، هل تستطيع وسيلة ما أن تتحرر من سلطة الهيكل المعرفي الذي أنتجها أم تبقى أسيرة له بالضرورة؟ كأن تُنتج خريطة تنقض السلطة الكامنة بها، والاستعمار والقوميات والرأسمالية...إلخ.. ضمن هذا الطرح الافتراضي، أود ان أجمع بين خطين و"هامشين" من البحث المتراكم في علاقة ليست تراتبية أو متوازية،  وإنما ضمن علاقة جدلية غير خطية- أكتبها كما أفكر بها. كل خط أو هامش فيها يشكل ضجيجًا ضروريًا في خلفية كل منها. يتم تفكيك هذه العناصر بالعلاقة مع السؤال الافتتاحي عبر التفكير في أدوات تمثيل المكان، على سبيل المثال المجسم أو الخريطة.2

يستند الخط الأول على فكرة الجمع: جمع لحظات معمارية تربط بين مفهوم السكن والزمن- المؤقتيات-  كمخيال يقاوم نزوحه وتهجيره المستمر، ويقاوم سكونه أيضًا عبر تخيله للعودة ولو ضمنيًا. تُرجم هذا الجمع عبر الكتابة وبناء المجسمات ودراسة الفراغات، بالاستناد إلى تاريخ شفوي، إلى ذاكرة- أو إلى غيابها3 -  واستنطاق الغيابات. الأهم من ذلك، أنه يستند إلى التفكير في مفاهيم وطرق "النظر" للمعاني المعرفية الكامنة في مواد البناء. يشتبك هذا الجمع أيضًا مع العلاقة المسطحة المفروضة علينا بين ما يسمى مراكز وأطراف مكانية وتمثيلاتها- ما هي الغيابات خارج المراكز "الهيكلية" المحددة كالبرجوازية الفلسطينية، وما كتبت وتكتب "النخبة" أو الأيقونات المعمارية - والأطراف، المخيم على سبيل المثال، وإن كان مركزًا سياسيًا لدوره في المقاومة وتسطيرها منذ نشأته.

في إطار عرض ونشر هذا الطرح أكاديميًا أو معماريًا أو فنيًا، غالبًا ما يتطلب الأمر تسمية أو تصنيفًا مفاهيميًا لهذه العملية كجزء من توضيح الغاية أولًا- ربما جرت العادة هكذا. بالرغم من أن جوهر هذا الطرح لم يتذبذب، إلا أن "عنوان" هذا الجمع تأرجح بداية بين كونه عملية عكسية للأرشفة، لخط موازٍ لتاريخ العمارة "الرسمي"، وبين كونه معجمًا فراغيًا، أو مشهدًا لتضاريس المؤقتيات الدائمة هذه، يتخيل ويطرح فلسطين موقعًا راديكاليًا للمعرفة، ويحاول التفكير خارج تاريخ العمارة الرسمي الذي ندرسه ونتحرك ضمن إطاره وقيوده. تدريجيًا، سقطت هذه التسميات بسبب التوتر المعرفي بين مضامينها (من سلطة كامنة وهيكلية) وبين ما تحاول هذه العملية كسره.

أما الخط الثاني، فيعتمد على الأرض كمخيال ينتج معرفة كامنة تقاوم زوالها باستمرار. عبر تفكيك عناصر معمارية  كالقبة، النفق، الأدراج، الأعمدة والتعمق في تحولها وحركتها سياقيًا ومعرفيًا. على سبيل المثال: النظر لمنحنى النفق في غزة  كمعرفة متحولة من منحنى القبة في بيت الفلاح الفلسطيني التقليدي - الذي تم تدميره او احتلاله أو السعي لتحويله لصورة مجرّدة ومشتهاة من الاحتلال الصهيوني. المنحنى الأول – النفق - استطاع تحويل الصورة – القبة - الى الحركة والتحرير والمستقبل.

بعد طوفان الأقصى توضح لي أنه بالرغم من اعتمادي بالخطين على نفس المبادئ التحليلية إلا انني لم افكر في جمعهما معًا، مما جعلني أتساءل - هل يستسلم "موضوع" الخط الأول ضمنياُ لمفهوم الانتظار منتظرًا أرشفته؟ بينما يتحرك "موضوع" الخط الثاني أسرع منا ومن الاحتلال نفسه، ضد محوه بكل الأشكال؟

خط (1):


من يفتح اليوتيوب على هاتفي يصعب عليه فهم ذوق المتصفح- سورة الكهف، تمثيليات مصرية من الألفية الثانية، موسيقى مشتتة، وغيره، مما يجعل نجاح اقتراحات المحرك غير مضمونة فيخيب أكثر مما ينجح في أغلب الأحيان.
اقترح علي في بداية العدوان على غزة ووضوح الإبادة، فيديو لإحياء الذكرى العاشرة لرحيل إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا، يتحاور فيه كورنيل ويست وجوديث بتلر (قبل أن يصف الأول ٧ أكتوبر بالحدث البربري،  وقبل أن تكتفي هي/هم بالحزن، ثم تراجع نفسها، ثم تراجعها مرة أخرى). ينطلق ويست من ضرورة البدء "بالكارثة،" مشيرًا إلى مقولة سعيد: أنا المفكر اليهودي الأخير، أنا التابع الحقيقي لأدورنو.

لم تأخذ هذه الفكرة مساحة كبيرة من الحديث، لكنها كانت دالة بشدة. فما يبدو للوهلة الأولى ربطًا مسطحًا، هو أعقد بأثره، وذلك لانتمائة إلى التجريد المسقط على الفلسطيني. التجريد كتسطيح واختزال. وطبعًا، "الأنسنة" هنا هي عبر التراجيديا: شُرّدوا قُتلوا ضاعوا- انتهت القصة، فتصبح هذه نقطة الالتقاء المسموحة الوحيدة، وقصورها واضح وإن تم طرحها في سياق تحرري أو يدعي التحرر.

منذ عقد من الزمان أو أكثر، التقيت بالفيلسوف الإيطالي فرانكو (بيفو) بيراردي في بيروت. في سياق حديثنا سألني عما أعمل عليه حينها، فقلت: "كيف نبني بدون أرض"، وهو مشروع وإطار سأتطرق له لاحقًا. بدا الاهتمام على وجهه، وقال: كيف نبني لأناس من دون أرض، قلت – لا - وكررت "كيف نبني بدون أرض"، وكرر هو بدوره كيف يسمعها. وضّحت أن العنوان ليس فكرة للنقاش أو لإسقاط شيء ما، وأن له كامل الحرية في أن يفهم الأمور كما شاء، لكن بعيدًا عن تحريف المعنى وتغيير العنوان.

في الحقيقة، ورغم انزعاجي منها، غابت هذه الحادثة عن بالي كل هذه السنوات، وتذكرتها حين شاهدت المقطع المذكور أعلاه. ربما يعود ذلك لإمكانية رؤية نمط واحد في الحادثتين. هل نحتاج كفلسطينيين دائمًا لمرجعية، مقاربة، أو خلفية ما لمحاولة إضفاء مصداقية على أي سؤال أو طرح؟ أم هو التجريد؟  قد يعني التجريد أحيانًا التحرك ذهابًا وإيابًا بين الفكرة والمادة وإنتاج علاقات مشتبكة مع الواقع، وإن كان هذا النوع لهذه العملية محمودًا أغلب الاحيان، فهو ليس المقصود هنا- بل المقصود هنا التبيسط استراتيجيًا واختزال الموضوع بما يناسب من يقوم بهذا العملية، وبما يضمن استمرار العلاقة الاستخراجية مع الموضوع.

هل هو شيء دفين في اللغة والموقف إذن؟- من دون أرض/ أناس من دون أرض- هل تدل اللغة على عزلة مثقف ما عن المجموعة، وتموضعه ضمن ما يطرحه من فكر لا يتجاوز تقديم"الخدمة" في نظره؟ ولن أتطرق لما يرمز له هذا التغيير في الجملة من سرديات صهيونية، أرض بلا ناس وناس بلا أرض. لكن استطيع تأكيد وقعها على أذني: جملة ذات أفق ضيق لا يستطيع تخيل التحرير، تمامًا كالمقاربة الأولى- تيه لا نهاية له كأمر واقع.

في الحقيقة، ما وددت أن يدل عليه العنوان أولًا، وما تتطرق له هذه الأعمال والبحث ثانيًا، هو الرفض: رفض كل بناء على غير تلك الأرض، واستعصاء السكن في كل الأراضي، بغياب تلك الأرض. إذن، لم يتبقَّ للعمارة سوى أن تكشف عبر دلالاتٍ فارغة وانعدام الجدوى، عن استحالة هذا السكن. فعليًا، يرتبط السياق المباشر للسؤال بإعادة الإعمار، وعملي المباشر به، تحديدًا في مخيم نهر البارد الفلسطيني الذي دمره الجيش اللبناني عام 2007. تحولت تعقيدات إعادة الإعمار على أرض الواقع إلى تفاصيل تتعلق بالسيطرة المفروضة على العملية نفسها، أو حدودها التقنية أو القانونية؛  فهي عملية لا يمكن فصلها فعليًا عن السياسة وتحولاتها، أو عن الواقع الفلسطيني.  فينتقل السؤال تدريجيًا من كيف نبني مخيمًا، نبني ما هو متحول ومؤقت، إلى سؤال يحتمل أبعادًا أكبر للاغتراب - كيف نبني من دون أرض- "في غياب هذه الأرض، استعصى السكن في كل الأراضي."

يكمن السؤال الأساسي في إعادة الإعمار في المنظومة التي ستتم إعادة الإعمار من خلالها، أي نوع من التحرر أو عدمه تنطلي عليه هذه العملية، وأي نوع من البناء المستقبلي؟ وفي حالة المخيم، من الممكن القول إن إعادة الإعمار هي ترسيخ لهذا المؤقت، وربما ترسيخ العنف الذي سبب الدمار- على الرغم من ضرورة إعادة إعمار هذا المخيم، أو ضرورة مقاومة زوال المخيم، حتى التحرير- فالعودة إلى مخيم نهر البارد كانت عند أهله أساسًا في مخيالهم للعودة إلى فلسطين.  
إن فهم السكن "المؤقت" في هذا اللجوء والنفي والتهجير المستمرين، يزداد تعقيدًا عندما يقترن بعمليات التحديث والحداثة في البلدان "المضيفة"،  كما تسمى رسميًا.  فكيف ننظر لمشاريع بناء الدولة من جهة واللجوء وسلب الأراضي من جهة أخرى من خلال فلسطين،  فهي جبهة نأمل بتفكيك كل أسس ومفاهيم السيطرة، الاستعمار، والرأسمالية عليها ومنها. من هنا- كان لا بد من النظر الى معنى السكن والبناء بعيدًا عن المعنى الواضح للمؤقت والزوال من خلال التفكير في "المؤقتيات الدائمة"، كإطار أبعد من المخيم.
4
تطمح السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي إلى نفس شكل الدولة ومفاهيم "الاستقلال." ا  
بينما أدّت الحداثة إلى تعزيز القوميات والحدود الوطنية بشكل الدولة المتفق عليها ضمن النظام العالمي الحالي، كانت هي أيضًا  لحظة اللجوء والنفي في المنطقة العربية. يمكن النظر إلى هذا الربط كسجّل استعماري في المكان، فالأنظمة المسماة بـ "ما بعد استعمارية" ، خصوصًا تلك التي تتشارك حدودًا مع فلسطين المحتلة بنيت على المؤسسات الاستعمارية السابقة أو في موازاتها، وليس عبر قطع جذري معها؛ وإن وجد هذا القطع، يستمر شكل الهيمنة عبر العلاقات الاستخراجية والاستعمارية الجديدة (النيوكولونيالية) ومؤسساتها. من جهة أخرى، بنت الأنظمة الرجعية والقمعية هويتها القومية بالعلاقة مع القضية الفلسطينية عبر تخيل هذه الهويات وإرجاعها إلى لحظة في الماضي تتخيلها قبل فلسطين المحتلة: لحظة عائدة لما قبل احتلال فلسطين، وليس ما بعد تحريرها، لحظة ماضية متخيلة وليست مستقبلية.4
5
انظر صبا عناب، محاضرة "غدًا، لن يكون الشعر بيت الحياة،" دارة الفنون، حزيران 2021، https://daratalfunun.org/?event=tomorrow-poetry-will-not-be-the-house-of-life
انظر أيضًا:
Innab, Saba, Tomorrow Poetry Will(not) be the House of Life, Inflection Journal, vol. 8 (November, 2020): 32-39

كيف ننظر إلى فلسطين كبناء معرفي، من خلال المؤقت الدائم كموقع يسائل المستقبلية ويكشف الغيابات؟ ما هي الاختفاءات المختلفة داخل فلسطين المعرفية - باعتبارها أيضًا بناءً معرفيًا يولد أنواعًا من الغياب كأي بناء آخر، خاصة إذا ما نظرنا خارج المراكز "الهيكلية" الواضحة، البرجوازية الفلسطينية والمؤسسات مثلًا، أو المراكز الاقتصادية والأيقونات المعمارية، والأطراف الواضحة أيضًا:  المخيم، الذي يتحول بدوره  إلى مركز لراديكاليته السياسية؟ هل من الممكن الكشف عمّا هو خارج المراكز والأطراف إلى طوبولوجيا أكثر سيولة، تُغيَّب من هذا البناء المعرفي؟ كيف يمكننا التقاط أثر الزمن على هذه الفضاءات العابرة؟

إذا كانت العمارة في المؤقتيات الدائمة تشير سيميائيًا إلى فلسطين، أو إلى العودة، إذًا لا تحدد المادة (صلابتها من هشاشتها) هذه العمارة. هل يمكننا اعتبارها عمارة فلسطينية - وإن أُنتجت بالضرورة خارج فلسطين؟5

عند النظر من مسافة الآن، بالاعتماد على مسار عائلتي بالتهجير- باعتباره عينة متكررة إلى حد كبير- من القرية إلى الكويت، المثال الأوضح للاجئ والمهجّر كعامل مهاجر، ثم إلى الزرقاء ثم عمّان، وأخيرًا مخيم نهر البارد التي كانت علاقتي به من خلال العمل على الأرض: كمخيم كان قد مسح ثم أعيد بناءه، كمحاولة لجمع هذا الزوال بماديته، باعتبار كل هذا جزء من البناء المعرفي الفلسطيني. يتمثل هذا الجمع بالتقاطع مع اللغة المعمارية، مواد البناء ودلالاتها الطبقية والسلطوية، والفرق بين من يبني ومن يسكن، من يخطط وكيف ينفذ، وترجمة كل هذا سياسيًا بالمعنى العريض والمفصّل للكلمة.

استنادًا إلى دلالات مختلفة من لحظات "أرشيفية،" من تاريخ شفهي أو صور غير معنونة، تتكشف لحظات نشأت بسبب العنف المباشر للتهجير، وغيرها ترتبط بعنف رأس المال الملازم لصناعة القوميات والهويات المعمارية. في هذا السياق، على حد سواء تقع هذه اللحظات خارج النطاق القومي أو الوطني، في هوامش مسيطر عليها، ويكمن بينها طيف كبير من المؤقتيات. التفكير في هذا الطيف، كالتفكير إنطلاقًا من الغياب، من غياباتنا أو اختفاءاتنا المختلفة التي تشكلت بعد سنوات من الشتات الأول.

بناء مشهدية الصورة الوطنية لما يسمى "الدول المضيفة"، والسكن فيها، خطان متوازيان لا يلتقيان. واستعادة هذه المساحات المتحولة والمؤقتيات يمتد ليشمل الاستلاب والتهميش وهجرة العمال، وتبلور الانقسام الواضح بين من يتصوّر، ومن يسكن، كالإنقسام بين عمارة الرّغبة وعمارة الحاجة.
6
الخريطة:  في حالة نهر البارد أسترجعُ نسيج المخيم من الذاكرة كالوثيقة الوحيدة لتاريخه المادي. للمزيد: https://perpetualpostponement.org/mqdm-tmhyd/

7
للمزيد عن المجسمات، أنظر الرحالة (2016):
https://www.marfaprojects.com/exhibitions/32-saba-innab-al-rahhalah-the-traveler-past/works/
بالتعلّم من المخيم،6 أَلْهَمَتْ عملية جمع و استرداد المكان من ذاكرة أهالي نهر البارد لتخيّل العودة تحديدًا، عملية جمع السّكن واستحالته كوسيلة لبناء المعرفة التي تعيد التفكير بالأطراف والمراكز. كمحاولة لتجاوز قصور التخيّل أحيانا أو الذاكرة، يصبح المجسم، أو بالأحرى، إعادة التفكير بالمجسم والتعبير من خلاله، وسيلة لالتقاط هذه المعرفة، تماما كمًا نعيد التفكير بالهامش. مجسمات مختلفة تتكون من خلال تفكيك لحظات معمارية فراغية، وتحويلها لزوايا ومواد، فتكشف طبقات أخرى: الأرض، الاغتراب، المعرفة الموروثة، المعرفة الباطنة أو الكامنة، ومحاولات تفكيك المجهول في سياقات الاغتراب والتهجير. تتعدى هذه الفراغات التعبير ثنائي الأبعاد، كونها تأتي من الذاكرة أو من سردية أو موقف يُلتقط ويُوثّق من خلال التجريد إلى معانٍ ودلالات مختلفة.7 تتعارض هذه المجسّمات مع الأصول السلطوية الكامنة في المجسّم. في السياق المعماري، يكون المجسّم الفكرة الأولى قبل الطلل، باعتبار أن كلّ بناءٍ هو طلل عن فكرته الأولى - ويأخذ أشكالًا عدّة حتّى يصل للمرحلة النهائية قبل التنفيذ. تتعدى وظيفته التوضيح أو اقتناص المجهول وغير المفهوم قبل التنفيذ، وانما يتحوّل المجسّم إلىtoken  مسكوكة رمزية، كثيرًا ما يوضع داخل المبنى المكتمل في حالات التحف المعمارية القيّمة. يعمل المجسّم هنا عكس ذلك وإن بقى أسيرًا له، فهو لا يمكن إسناده لتركيب مكان بعينه، وإنما لفكرة مكان، أو لذاكرة مكانية لمشهد، أي أنه مجسّم يبني منظورًا حرفيًا.

فكيف يعمل المخيال لتركيب هذه المواد والمعاني، لكتابة غيابٍ ما ضمن "التاريخ" ، أو بناء معرفي، وإيجاد هذه اللغة من دون الاقتران دائمًا بما يولّد غيابه؛ ونسج علاقات فراغية وتحليلية تتحرّك بين العام والخاص، لتصنع "العام".

خط (2):


وُضعت معادلة الأرض الخالية كنقطة نقاش عريضة تتفاعل معها أغلب محاولات النقد الأرشيفية والأكاديمية، كـ "رد فعل" على الرغم من وضوح سقوطها - فمنشأة النّكبة تستمر بإنتاج "الإفراغ" بالتابولا راسا المستمرّة ، سواء من افتراضها، أو اختراعها أو خلقها فعلًا. فبالرغم من وجودنا، نحتاج الأبحاث "العلمية" المستندة إلى الارشيفات والوثائق في محاولة إثبات هذا الوجود.

لا أنتقص من قيمة الأرشفة بحد ذاتها، خصوصًا في ظل الزوال المستمر والممنهج؛ لكن المقصود هنا سؤال عن ما هي المنظومة التي ينتمي إليها أرشيف ما – أي الأرشيف كدليل لا كإنتاج معرفي، ضمن المنظومة الحالية التي تولد غيابنا في المقام الأول. وجبت العودة هنا إلى السؤال الأول: هل تعد "إعادة التفكير" كمفهوم تحرري نقدي ضمن منظومة ما، منهجًا يحافظ على الهزيمة المستمرة والأمر الواقع؟ أي، هل تستطيع وسيلة ما أن تتحرر من سلطة الهيكل المعرفي الذي أنتجها أم تبقى أسيرة له؟ قد تتمظهر هذه المنظومة عبر المتحف، الأرشيف، أو القانون على سبيل المثال لا الحصر، من مفاهيم و(أطر) القيَم والقيمة والجدوى، التي تُبقي تحديدًا على محاولات التحرر وخيالها ضمن التجريد وما يعد "منطقيًا" في عرف النظام العالمي، ويبقى نقدها ممكنًا فقط حين نتعامل مع الحاضر كماضٍ، كتاريخ منتهٍ، ماضٍ للذكرى فقط لا غير، من دون التعامل مع تبعات هذا العالم "القديم" إن افترضنا انتهاءه. في سياقات ما بعد الاستعمار والدول الفتية نسبيًا استُبدِل "السيد" المستعمِر "بسيد" محلي مع بقاء مؤسساته وعلاقاته وتصوره عن الدول والقوميات، التي تضمن استمرار العلاقات الاستخراجية عبر البنى النيوكولونيالية وعنفها وعبر إفقار الشعوب. وبحسب سيديا هارتمان، تعمل المتاحف على تخليد دلالات السلطة التاريخية مجسدةً بذلك إخضاع الضحايا ومبقيةً على أطر العنف وهياكل القوى على حالها. يستمر هذا المفهوم تحديدًا حين تفترض هذه المنظومة زمنًا مجردًا، حتى في خطابها النقدي، حيث لايمكن لهذا السؤال التحرر من الهياكل المعرفية والقوى التي أنتجت هذه العلاقات الاستخراجية. وعلى غرار ذلك، تقوم  أغلب المحاولات النظرية من إعادة التفكير -to rethink-  أو التخلص من معرفة ما -to unlearn-على علاقات استخراجية استهلاكية مع مواضيعها وسياقاتها، ضمن الهياكل السائدة، وما يُسمح أو لا يُسمح به في إطار جامعة، متحف، أو دوائر تمويل.  تبقى أغلب المواجهات والاشتباكات مع هذه المنظومات محدودة حتى بعد استفحال الإبادة. لا بل قد يعطي النقد أو المواجهة في إطار أي منظومة الشرعية والاستمرارية في خطابها. تصبح السرديات التي تنطلق من داخل المنظومة هذه لسهولة بلعها، هي المسيطرة على ما هو فلسطيني مثلًا، أو ما تعنيه مناهضة الاستعمار ضمن سياقات الفن والأكاديميا على سبيل المثال- لانها ببساطة، تبقي الوضع على ما هو عليه؛ فهي إذ تستمر في إنتاج "نقد" سطحي، تبقي من جهة نفسها على علاقة استخراجية مع سياقها، ومن جهة أخرى في علاقة   تغازل النظام محافظة بذلك على امتيازاتها، فتستفيد منه تارة، وتقدم نفسها خارجة عنه طورًا.
8
مرسال، إيمان،" الأرشيف والجريمة" ترجمه روبن موغر، من منشورات "كيف ت" و أركايف بوكس، 2022.

تربط إيمان مرسال في كتابها من سلسلة "الأرشيف والجريمة" بين التحقيق في الجريمة، وفعل قراءة الجريمة في الأرشيف، بين لغة التحقيق ولغة السرد، بين غياب الأدلة وغياب الأسئلة. تأخذنا هذه الثنائيات إلى الحلقة المفرغة للوجود في مرحلة ما بعد الكارثة وأدواتها - العمل الذي يحدث بعد وقوعها وليس قبلها. لا يمكن للمرء أن يتوقع الكارثة بالطبع، كما العالق في التحقيق في مسرح الجريمة وأدلتها، ولكن لا يمكن أبدًا منعها؛ وهذا تشبيه مسطّح ربما. في الحقيقة أميل أكثر للانسحاب من فكرة الدليل، من أن نجعل شيئًا ما معلومًا، وأن أنظر إلى الخفاء والاختفاء والهروب كأفق للتحرر، لقلب الطاولات كما يقال. أحد أسباب ذلك هو سؤال عالق لديّ بشأن جعل الشيء معلومًا: معلوم لمن، مجهول لمن؟ لكنه يأتي أيضًا من قصورٍ يمكن أن نتفق عليه جميعًا فيما يتعلق بالنهج الاستدلالي والجهاز القانوني، وما يمكن أن يأتي به من أفق ممكن للعدالة وجبر الضرر والتحرير. وهو قيدٌ يبدأ من اللغة، فما الذي يتأسس عندما نقول: قتل غير قانوني، أو استيطان غير قانوني، أو تدمير غير قانوني؟ وما الذي يعنيه أو يمحوه هذا القيد مقابل ما يعترف به؟ على وجه التحديد، في سياق فلسطين والاحتلال الاستيطاني تحديدًا، ولكن أيضًا التفكير في الدول القومية بشكل عام. هو إذن بحث عن لغة ليست لغة مضادة لبنية مهيمنة - بل لغة تتضمن الغياب في الحاضر، من دون الحاجة إلى الإشارة إلى ذلك الحاضر المعني، أو أن يتم تعريفه من خلاله؛ وبالتأكيد ليس في علاقة ثنائية، بل لغة تدل على كيفية التغلب على هذا التوليد البنيوي المستمر للغياب.
9
دورا غاد- مصممة عمارة داخلية صهيونية (1923، رومانيا- 2003، تل أبيب)، ألفريد مانسفيلد- معماري صهيوني (1912، سانت بطرسبيرغ- 2004، حيفا)، كان لهما دور كبير في تصميم مشاريع للكيان.

”لم تترك لوحات المقترح المقدمة لمسابقة المتحف الوطني لعام 1959 من قبل المهندسين المعماريين آل مانسفيلد ودورا غاد9 مجالًا لسوء فهم مرجعية إلهامهما. فقد ظهر في أعلى اللوحة الأولى رسم تخطيطي تمثيلي يصور قرية عربية، أشير إليها كتابيًا بأنها قرية المالحة قضاء القدس. وأسفل اللوحة كان هناك منظور للمتحف المقترح، يصور صورة مجسمة لا تقاوم لتكتلات مكعّبة على التلال التي تتمتع بالأصالة والعفوية المستعارة من العمارة المحلية. لقد علمنا من نتيجة المسابقة أنه وبسبب هذا الرسم التخطيطي، هذا التشبيه الساحر الذي لفت انتباه لجنة التحكيم قد كان السبب الرئيسي لاختيارهم لهذا المشروع. وهكذا تم تكريس قرية المالحة باعتبارها الأصل الأسطوري لمتحف إسرائيل الوطني.  صورة  المالحة المفرغة (التي عادت للظهور مرارًا وتكرارًا ، بما في ذلك كشعار مطبوع على مناديل الكافيتيريا) لا يمكن اعتبارها  مجرد منظر خلاب، بل ينبغي أن يتم التفكير فيها على أنها أثر باقٍ من الخراب الهائل والمصادرة والاستيلاء الثقافي الذي أعقب عام 1948 وتأسيس إسرائيل والنكبة الفلسطينية -“ مقتطفات من كتاب ”The Object of Zionism“ (تسڨي إفرات 2018). 

لم تهدم قرية المالحة في النكبة، بل تم تفريغها بشكل نهائي من سكانها. و تم الإبقاء على العديد من منازلها الحجرية المتينة االتي صودرت واحتلت بموجب قانون الغائبين- القانون الذي وضع من قبل المستعمِر بطبيعة الحال، كما كان الحال بالنسبة إلى أكثر من 400 قرية فلسطينية دُمِّرت أو أُخليت من سكانها إبان النكبة عام 1948. احتل المستوطنون اليهود بيوت المالحة مؤقتًا حتى ستينيات القرن الماضي، قبل أن يتم نقلهم إلى مساكن مسبقة الصنع. وقد احتل المالحة لاحقًا المستقطنون (squatters)  من البوهيميين والفنانين الاسرائيليين - الذين جددوا القرية لتصبح ”مستعمرة للفنانين.“  هذا التحول - إذا ما نظرنا إليه في أي سياق كان، فسيكون حالة مألوفة جدًا من الإحلال الطبقي - في سياق استعماري استيطاني - له طبقات أخرى من الاستيلاء و ونزع الملكية.
10
موشيه صَفْدي معماري صهيوني ولد في حيفا في 1938، انتقل مع عائلته لكندا في الخمسينات ليعود مجدداً لفلسطين المحتلة ويفتتح فرعاً لمكتبه الهندسي في القدس في 1970. عمل على مشاريع استيطانية عدة بتوكيل من سلطات الكيان، بالإضافة إلى عمله مع إزرائيل تال، وهو جنرال في جيش الاحتلال الاسرائيلي، كمستشار لتطوير الهندسة المتكاملة للنموذج الأول لدبابة الميركافا في السبعينات، التي استخدمت لأول مرة بكثافة في اجتياح لبنان 1982.
بدعوة من مشرفة أطروحته للماجستير في كلية الهندسة المعمارية بجامعة ماكغيل، طور صَفْدي هابيتا 67 ليشارك به في معرض إكسبو 67، وهو معرض عالمي أقيم من أبريل إلى أكتوبر 1967 في مونتريال- كيبيك. بعد انتهاء المعرض، استمر الموقع ومعظم الأجنحة كمعرض بعنوان  "إنسان/رجل وعالمه،" الذي افتتح خلال أشهر الصيف من عام 1968 حتى عام 1984.
قد يكون هابيتا 67، وهو مجمع سكني من عشرة طوابق الإرث الدائم الوحيد للمعرض.

11
يونا فريدمان (1923، بودابيست- 2020، ألاسكا) معماري ومنظر و مخطط حضري اشتهر بمفاهيمه حول العمارة المتحركة أو المتنقلة.  
قدم في المؤتمر الدولي الحادي عشر للعمارة الحديثة في دوبروفنيك عام 1956، مانيفيستو العمارة المتنقلة الذي ساهم في مساءلة التسليم للأفكار الحاسمة خلف التخطيط للتصميم المعماري والعمران. خلال ذلك المؤتمر، حدد فريدمان - لأول مرة - مبادئ العمارة المتحركة القادرة على فهم التغييرات المستمرة الملازمة «للتغير والحركة المجتمعية» والقائمة على «البنية التحتية» التي توفر السكن. يقترح فريدمان إمكانية إنشاء قواعد التخطيط وإعادة إنشائها، وفقًا لاحتياجات السكان والمقيمين.
ما يثير السخرية حقاً هو إنساب فريدمان هذه الأفكار إلى تجربته المباشرة مع اللجوء والتشرد أولاً في المدن الأوروبية، وثانياً في الكيان الصهيوني- كقادم جديد يعاني من "أزمة سكن" كمئات الآخرين الهاربين من أوروبا حاله الذين هبطوعلى أرض فلسطين كل يوم حينها، حيث عاش في العقد الأول من تأسيس الكيان. يأطرهذه الاحتياجات وإن كان بطريقة غير مباشرة، كحاجات دولة حديثة التشكل على هذه الأرض الخالية، وليس تطهيراً عرقيا واحتلالاً، بطبيعة الحال.

12
الميتابوليزيم اليابانية هي حركة محاكاة-عضوية معمارية، نشأت مابعد الحرب، تدمج أفكارها بين المنشآت المعمارية الضخمة والنمو العضوي البيولوجي. عرضت أفكارها أول مرة في إحدى دورات المؤتمر الدولي للعمارة الحديثة عام
1959 ( Congrès Internationaux d'Architecture Moderne, CIAM)، وتم اختبار هذه الأفكاربشكل مبدئي في استوديو المعماري كنزو تانغي في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) .

تأثرت الحركة بمجموعة متنوعة من المصادر بما في ذلك النظريات الماركسية والعمليات البيولوجية. يتألف مانيفيستو المجموعة من أربعة مقالات بعنوان: مدينة المحيط (Ocean City) ، مدينة الفضاء/الفراغ (Space City)، نحو"شكل المجموعة" (Towards Group Form) ، والمادة والإنسان (Material and Man). احتوى المانيفيستو أيضاً على تصميمات لمدن شاسعة تطفو على المحيطات، وأبراج مع كبسولات مضافة (plug-in) التي يمكن أن تتضمن نموًا عضويًا. على الرغم من أن المؤتمر العالمي للتصميم (طوكيو 1960)  سلط الضوء على عمل "ميتابوليزم" على مستوى عالمي، إلا أن أفكارهم ظلت نظرية إلى حد كبير.

13
أركيغرام مجموعة  طليعية معمارية من بريطانيا، أعتبرت من أكثر الحركات المعمارية تأثيراً في ستينيات القرن الماضي. استلهمت المجموعة من التكنولوجيا من أجل خلق واقع جديد تم التعبيرعنه من خلال مشاريع افتراضية، أي لم يتم بناء مبانيها أبدًا، على الرغم من أن المجموعة أنتجت ما أسماه المؤرخ المعماري تشارلز جينكس "سلسلة من الأشياء الضخمة ، حيث يتردد المرء في تسميتها بالمباني لأن معظمها تحرك، نما، طار، مشى، استعار، أو حتى غرق تحت الماء"

استمر اجترار وخطف البصريات لبيت الفلاح الفلسطيني على السفوح في عدة أشكال - أود إسقاطها على سبيل المثال على تراكيب هابيتا (67Habitat) 67  وهو مشروع المعماري الصهيوني الكندي موشيه صفدي (مواليد حيفا، 1930)، والذي كان المشروع الذي أطلق شهرته في إكسبو 1967- مونتريال، كيبيك- وذلك قبل مساهمته الصهيونية "الأهم"، كمستشار لتطوير الهندسة الشكلية للنموذج الأول لدبابة الميركافا في السبعينات. من الممكن القول إن منطق المشروع بصريًا ينتمي إلى مدارس سائدة حينذاك سواء من يونا فريدمان، أو مدرسة الميتابوليزم اليابانية،12 أو أركيغرام13 وغيرهم ممن تبنوا "الهياكل الضخمة Megastructures"، لكن هناك مرجعيات أخرى من الممكن استشفافها. يتكون المشروع من وحدات معيارية مسبقة الصنع (prefabricated)، تنطلق من قاعدة أرضية لتنمو بشكل تراكبي عضوي أفقيًا وعموديًا محلقة كمنشأة تتحدى الجاذبية.

توضحت هذه المرجعيات أكثر في مقترح هابيتا- القدس (1969-1970)، حيث تظهر هذه التراكيب متفاعلة مع تضاريس التلال المقدسية، مع إضافة القباب البيضاء على هذه المكعبات، في مجسم مصمت مسقطًا على التلال المستعمرة هذه المرة، وقبة الصخرة في الخلفية.  ففي نفس الوقت الذي يستوحي فيه هذا المعماري "بالخطف،" يهيء تلقائيًا لإجلاء واقصاء وتهجير، بطبيعة الحال، فيصبح البناء بحد ذاته محيًا وهدمًا. ويبدو أن نمط "الاقتباس الاستعماري" هو المنهجية المتبعة؛ ففي عام 1962، أي قبل المشروعين المذكورين أعلاه، عمل صفدي على دراسة بعنوان "مدينة للاجئين الفلسطينيين" التي تظهر سكيتشات تتخيل تهجير 250 ألف لاجيء فلسطيني إلى مدينة الجيزة المصرية. أشّر صفْدي على الرسم بعبارة منوهاً لحجم الكثافة السكانية الممكن استيعابها إذا ما استلهمنا من الهرم كمنطق فراغي- فيكون بذلك ضرب عصفورين بحجر، صمم سياقياً وهجّر قسرياً.

هل من الممكن أن تكون هذه الدلالات مادة لكتابة شيء غير الإثبات؟ بينما يبقى المجسّم والخريطة معًا نقشًا  لخيال المستعمر ولرغبات لم تتم هي بعينها، لكن ربما عاشت عبر مشاريع أو مجازر أخرى ومستمرة.

في السنوات السابقة استخدمت تقنية الشف أو إعادة رسم المواد الأرشيفية عبر ورق الزبدة أو الكربونة (ورق الغرافيت)، من خرائط وصور وخلافه، لاستخدامها ونشرها كجزء من البحث وتضاريسه من جهة، وللتحايل على حقوق الملكية وحصرية هذه المواد من جهة أخرى. في هذا السياق تحديدًا، وفي حاضر الإبادة الاسرائيلية الأميركية على غزة، والتي أمتدت أذرعها إلى لبنان، بينما أكتب الآن في بيروت، لم أستطع  -ولا أريد - إعادة إنتاج العنف في هذه الصور، أو إعطاء أي صوت لمخطط أو صورة قائم على محينا أو تمنيه، أو حتى إعادة هذه الصور إلى مركز الحديث، بالرغم من أن الصورة نفسها هذه ركيكة حد الكوميديا السوداء. فلماذا نعيد إنتاج اجترار العدو الصهيوني للمالحة في خلفية بوستر مسابقة معمارية لبناء هويته، او إعادة إنتاج خطوطه المرسومة على محارم كافيتيريا متحفه المستندة إلى شكل أفق لفتا، أو مخطط يكاد لا يكون أكثر من"خربوشة" تدخل أرشيفًا وتكتسب قيمة بسبب ما تدعو إليه: المزيد من التهجير والمحي. إضافة إلى كل ذلك، وهو يحمل ما يكفي من الأسباب لرفض "الصورة" وأرشيفها في هذا السياق – تنتج الصهيوينة يوميًا صورًا رقمية لمدن متخيلة لما بعد غزّة أو لجنوب لبنان مطهرًا، بلغة معمارية و"جماليات" ناتجة أيضًا عن هذا النظام العالمي: كيف تنتج عنفًا عبر أقصى أنواع الاستخراج والدمار، وبالطبع- الاستثمار.

بالعودة إلى بيت الفلاح الفلسطيني، فإنه يصبح من خلال ما ذكر،  موضوعًا فيتيشيًا، ونموذجًا للمستعمرات الفنية، أو خلفية لمتحف وطني، معلنًا عن ”عمارة محلية جديدة“ متجاورة مع القرية، فضلًا عن كونه استيلاءً على معرفة. فيعمل المتحف هنا والمستعمر معًا - مختزلين المكعب والقبة كأيقونة، كعمل بلا مؤلف، ولا عنوان، كما ينسب القناع في اللوحة لبيكاسو، لكن يبقى القناع بلا مؤلف. ما أود المجاهرة به هنا هو رفض خبايا الأدلة والأرشيف هذا بالرغم من سريالية تفاصيلها. فتارة تكون دليلًا، وتارة شهادة، وتارة تجريدًا، بينما تقف المالحة ولفتا وغيرهما تستقبلان مسيرات العائدين التي يستمر قمعها مرارًا وتكرارًا في الحاضر من قبل الاحتلال الصهيوني. وكما يفكر وينظر علم الآثار تمامًا عبر المقاطع في الأرض، نرى أن المقطع  العمودي النموذجي لبيت الفلاح الفلسطيني "التقليدي،"يقدم علاقات فراغية معقدة وفريدة مع الأرض، تتحدى مفاهيم التراكيب الفراغية وتراتيباتها، والأهمية المسقطة عليها- الأمامي والخلفي، ما فوق الأرض وما تحتها-  وتلقائيًا، تدعونا إلى لتفكير بأهمية ما فوق الأرض وما تحتها.

تستدعي القبة، أو بيت الفلاحين - كعنصر تمّ  سلبه من خلال احتلاله وتهجير سكانه، أو تدميره - التفكير باحتمالات التحول في هذه المعرفة المبنية. هذا المنحنى الذي يعيش من خلال تشكيلات أخرى في العمارة الشعبية - كالنفق مثلًا، وهي المعرفة التي تتحرك ضد الحصار، الأسر، أي هي المقاومة داخل الأرض وإليها. تحوّل الأول مع الوقت إلى صورة تم سلبها وتوظيفها في بناء هوية الاحتلال الاستيطاني، لكن هو نفسه الموقع الذي يستقبل الحركة والعائدين - موقع ثابت ولكن في حركة دائمة، مقابل النفق، الذي هو الحركة نفسها. من الممكن القول، إن منحنى القبة هذا هو معرفة محلية نتجت عن مخيال الأرض، أو عن نفس الخيال الذي شكل البناء في الجبال وسفوحها، وتحولت هذه المعرفة إلى بناء منحنى قوس وجدران النفق، يشبه الاثنان معًا بنية معرفية هجينة، إذا تخيلنا الثاني على أنه حركة الأول.  فتجدد هذه المعارف نفسها مقابل الهياكل التي تنتج غيابها.

إن النظر إلى الاثنين معًا، يتيح لنا إدراك كيف أن المعرفة الأصيلة والمقاومة -المسلحة خصوصًا، هما أسرع من الاستعمار والاستيلاء اليومي. ونحن ندرك أنه على الرغم من أن الاستخراج الاستعماري الاستيطاني يمتد إلى الاستيلاء على المعرفة والطرق الكامنة في المكان وخطفها وإعادة إنتاجها لمصالحه، إلا أن هذه المعرفة نفسها (التي وقع الاستيلاء عليها) تستمر في تجديد نفسها وترسيخ نفسها كأداة يومية لإنهاء الاستعمار، والمواجهة، والعودة.

هامش (1) : ”ما لا يُرى لا يمكن كسره“، 2018

” بالنسبة إلى المُشاهِد، الرؤية هي القوة؛ أما بالنسبة إلى المشاهَد، فالرؤية فخ. "بلاغة الإمبراطورية"، ديفيد سبور.16


14
  لفتا، قرية فلسطينية مهجرة قضاء القدس، هجرت عصابات الهغاناه سكانها في كانون ثاني 1948، وهدمت معظم بيوتها، وأقام الكيان الصهيوني مستعمرة “مي نفتوح” على جزء من أراضيها. وضعت سلطة المحافظة على البيئة الإسرائيلية مخططات مختلفة لترميم القرية المهجورة، كتحويلها لمركز دراسات، أو مركز إقامات واستوديوهات فنية.نظم أهالي قرية لفتا المهجرين عدة مسيرات عودة لقريتهم في يوم الأرض منذ عام 2015 مشتبكين مع قوات الاحتلال.

15
تبلورت الكثير من هذه الأفكار في نص "خفف الوطء" المنشور على هامش معرض يحمل نفس العنوان، حزيران،2023.

16
سبور، ديفيد، "بلاغة الإمبراطورية: الخطاب الاستعماري في الصحافة، كتابة الأسفار، والأدارة الإمبريالية،" منشورات جامعة
ديوك، 1993
يستند العمل على صورة تداولتها وسائل الإعلام لنفق يربط بين غزة ومصر مكشوف جزئيًا في بداية الألفية الثالثة. تُجرّد الرؤية النفق من وظيفته، من جوهره، من كونه غير مرئي. وفي هذا السياق، فإن الخفاء هو ما يبقي النفق موجودًا - لذا تصبح الرؤية هي المحي والتدمير. بمجرد كشفه، يصبح علامةً على المستعمِر، وعلامةً على استحالة الحركة الكامنة في البنية.

كان تشكيل الأجزاء المكشوفة من النفق فقط، كقطع من كلٍ جرى تنقيبها (بدلًا  من كشفها) - فيتغير معنى ودلالات كل شيء على الفور؛ فالقوس - هو عنصر بنيوي، بمجرد عزله عن وظيفته في النفق، يصبح إشارة إلى إيماءات معمارية مختلفة، يصبح إشارة إلى السلطة. فتصبح القطع هذه نفسها تناقضًا فوق الأرض.

كمن يصنع قالبًا لصورة لا يستطيع الوصول إليها، وضع قالب الصورة هذا في قاعة العمارة في متحف كارنيغي للفنون، بمجموعته التي تضم أكثر من 140 نسخًا من الجبس لروائع معمارية منجزة على الواجهات والتماثيل الأصلية بالمقياس الطبيعي (افتتحت عام 1907)، كطيف من علامات الهيمنة والسلطة التي تمثل الأنماط المعمارية السائدة في العمارة ما قبل الحديثة كالروائع القوطية و الرومانية. لا يعطّل هذا الجسد الفضاء فحسب، بل يدعو إلى تخيّل مصدر هذا الشكل، الجسد المحفور ذو دلالات زمنية - ليس فقط لأنه يجمد الأجزاء المكشوفة من النفق قبل تدميره، بل لأنه جسد الدمار المستمر.

إن تحليل المرجعية المعمارية والشكلية هنا هو جزء من محاولة أكبر لتحليل عمارة اللجوء والمنفى والحصار ومقاومتها الكامنة أيضًا، من خلال عزل العناصر المعمارية ورؤيتها على حدة.





هامش (2): خفف الوطء، 2023

أُنتِج هذا الرسم ضمن أعمال تضع مخيال الأرض مقابل مخيال المستعمر، مخيال السكن مقابل مخيال المتحف. كان هذا الصباح ، التاريخ المكتوب بجانب الأصابع،  السادس من أيلول عام 2021 نفَسًا، عبورًا وعودة: نفق حُفر بأدوات معدنية بسيطة بين أساسات سجن جلبوع: "أردنا ان نقول للعالم إن هذا الوحش وهم من غبار،" محمود العارضة.


1
على سبيل المثال، مفاهيم إعادة النظر، والتخلص من معرقة ما، وإعادة التفكير وغيرها من النظريات النقدية.

2
"الخريطة، المجسم، الشيء: عن البنية التحتية للسرديات المكانية،" هو طرح و خطة أومساقات دراسية تم تطويرها والعمل عليها منذ 2017، وأخذت أشكالًا عدة، منها تقديمها كمساق في جامعة
بريمن للفنون- ألمانيا، 2022-2023.

3
  أيضاُ عبر استعارة طريقة الحبك النقدي للتواريخ والأرشيفات - التي قدمتها سيديا هارتمان، على سبيل المثال وليس الحصر.

4
تطمح السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي إلى نفس شكل الدولة ومفاهيم "الاستقلال."

5
انظر صبا عناب، محاضرة "غدًا، لن يكون الشعر بيت الحياة،" دارة الفنون، حزيران 2021، https://daratalfunun.org/?event=tomorrow-poetry-will-not-be-the-house-of-life
انظر أيضًا:
Innab, Saba, Tomorrow Poetry Will(not) be the House of Life, Inflection Journal, vol. 8 (November, 2020): 32-39

6
الخريطة:  في حالة نهر البارد أسترجعُ نسيج المخيم من الذاكرة كالوثيقة الوحيدة لتاريخه المادي. للمزيد: https://perpetualpostponement.org/mqdm-tmhyd/

7
للمزيد عن المجسمات، أنظر الرحالة (2016):
https://www.marfaprojects.com/exhibitions/32-saba-innab-al-rahhalah-the-traveler-past/works/
8
مرسال، إيمان،" الأرشيف والجريمة" ترجمه روبن موغر، من منشورات "كيف ت" و أركايف بوكس، 2022.

9
دورا غاد- مصممة عمارة داخلية صهيونية (1923، رومانيا- 2003، تل أبيب)، ألفريد مانسفيلد- معماري صهيوني (1912، سانت بطرسبيرغ- 2004، حيفا)، كان لهما دور كبير في تصميم مشاريع للكيان.

10
موشيه صَفْدي معماري صهيوني ولد في حيفا في 1938، انتقل مع عائلته لكندا في الخمسينات ليعود مجدداً لفلسطين المحتلة ويفتتح فرعاً لمكتبه الهندسي في القدس في 1970. عمل على مشاريع استيطانية عدة بتوكيل من سلطات الكيان، بالإضافة إلى عمله مع إزرائيل تال، وهو جنرال في جيش الاحتلال الاسرائيلي، كمستشار لتطوير الهندسة المتكاملة للنموذج الأول لدبابة الميركافا في السبعينات، التي استخدمت لأول مرة بكثافة في اجتياح لبنان 1982.
بدعوة من مشرفة أطروحته للماجستير في كلية الهندسة المعمارية بجامعة ماكغيل، طور صَفْدي هابيتا 67 ليشارك به في معرض إكسبو 67، وهو معرض عالمي أقيم من أبريل إلى أكتوبر 1967 في مونتريال- كيبيك. بعد انتهاء المعرض، استمر الموقع ومعظم الأجنحة كمعرض بعنوان  "إنسان/رجل وعالمه،" الذي افتتح خلال أشهر الصيف من عام 1968 حتى عام 1984.
قد يكون هابيتا 67، وهو مجمع سكني من عشرة طوابق الإرث الدائم الوحيد للمعرض.

11
يونا فريدمان (1923، بودابيست- 2020، ألاسكا) معماري ومنظر و مخطط حضري اشتهر بمفاهيمه حول العمارة المتحركة أو المتنقلة.  
قدم في المؤتمر الدولي الحادي عشر للعمارة الحديثة في دوبروفنيك عام 1956، مانيفيستو العمارة المتنقلة الذي ساهم في مساءلة التسليم للأفكار الحاسمة خلف التخطيط للتصميم المعماري والعمران. خلال ذلك المؤتمر، حدد فريدمان - لأول مرة - مبادئ العمارة المتحركة القادرة على فهم التغييرات المستمرة الملازمة «للتغير والحركة المجتمعية» والقائمة على «البنية التحتية» التي توفر السكن. يقترح فريدمان إمكانية إنشاء قواعد التخطيط وإعادة إنشائها، وفقًا لاحتياجات السكان والمقيمين.
ما يثير السخرية حقاً هو إنساب فريدمان هذه الأفكار إلى تجربته المباشرة مع اللجوء والتشرد أولاً في المدن الأوروبية، وثانياً في الكيان الصهيوني- كقادم جديد يعاني من "أزمة سكن" كمئات الآخرين الهاربين من أوروبا حاله الذين هبطوعلى أرض فلسطين كل يوم حينها، حيث عاش في العقد الأول من تأسيس الكيان. يأطرهذه الاحتياجات وإن كان بطريقة غير مباشرة، كحاجات دولة حديثة التشكل على هذه الأرض الخالية، وليس تطهيراً عرقيا واحتلالاً، بطبيعة الحال.

12
الميتابوليزيم اليابانية هي حركة محاكاة-عضوية معمارية، نشأت مابعد الحرب، تدمج أفكارها بين المنشآت المعمارية الضخمة والنمو العضوي البيولوجي. عرضت أفكارها أول مرة في إحدى دورات المؤتمر الدولي للعمارة الحديثة عام
1959 ( Congrès Internationaux d'Architecture Moderne, CIAM)، وتم اختبار هذه الأفكاربشكل مبدئي في استوديو المعماري كنزو تانغي في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) .

تأثرت الحركة بمجموعة متنوعة من المصادر بما في ذلك النظريات الماركسية والعمليات البيولوجية. يتألف مانيفيستو المجموعة من أربعة مقالات بعنوان: مدينة المحيط (Ocean City) ، مدينة الفضاء/الفراغ (Space City)، نحو"شكل المجموعة" (Towards Group Form) ، والمادة والإنسان (Material and Man). احتوى المانيفيستو أيضاً على تصميمات لمدن شاسعة تطفو على المحيطات، وأبراج مع كبسولات مضافة (plug-in) التي يمكن أن تتضمن نموًا عضويًا. على الرغم من أن المؤتمر العالمي للتصميم (طوكيو 1960)  سلط الضوء على عمل "ميتابوليزم" على مستوى عالمي، إلا أن أفكارهم ظلت نظرية إلى حد كبير.

13
أركيغرام مجموعة  طليعية معمارية من بريطانيا، أعتبرت من أكثر الحركات المعمارية تأثيراً في ستينيات القرن الماضي. استلهمت المجموعة من التكنولوجيا من أجل خلق واقع جديد تم التعبيرعنه من خلال مشاريع افتراضية، أي لم يتم بناء مبانيها أبدًا، على الرغم من أن المجموعة أنتجت ما أسماه المؤرخ المعماري تشارلز جينكس "سلسلة من الأشياء الضخمة ، حيث يتردد المرء في تسميتها بالمباني لأن معظمها تحرك، نما، طار، مشى، استعار، أو حتى غرق تحت الماء"

14
  لفتا، قرية فلسطينية مهجرة قضاء القدس، هجرت عصابات الهغاناه سكانها في كانون ثاني 1948، وهدمت معظم بيوتها، وأقام الكيان الصهيوني مستعمرة “مي نفتوح” على جزء من أراضيها. وضعت سلطة المحافظة على البيئة الإسرائيلية مخططات مختلفة لترميم القرية المهجورة، كتحويلها لمركز دراسات، أو مركز إقامات واستوديوهات فنية.نظم أهالي قرية لفتا المهجرين عدة مسيرات عودة لقريتهم في يوم الأرض منذ عام 2015 مشتبكين مع قوات الاحتلال.

15
تبلورت الكثير من هذه الأفكار في نص "خفف الوطء" المنشور على هامش معرض يحمل نفس العنوان، حزيران،2023.

16
سبور، ديفيد، "بلاغة الإمبراطورية: الخطاب الاستعماري في الصحافة، كتابة الأسفار، والأدارة الإمبريالية،" منشورات جامعة ديوك، 1993


صبا عناب

مهندسة معمارية، فنانة، وباحثة فلسطينية تعمل وتعيش بين عمان وبيروت.

︎ ︎





︎ About the site
︎ Biographies
︎ Instagram


Archive Stories is funded by the London School of Economics and Political Science.


Copyright © 2025 Archive Stories. All Rights Reserved