
Basil Farraj
من السجن الصهيوني إلى العالم:ا
مقاومة السجّان وكسر العزلةا

يوم الأربعاء، ٢٧ آذار ٢٠٢٤، وصلنا إلى بوابة مجمع عوفر العسكري الواقعة على أراضي بلدة بيتونيا في تمام الساعة التاسعة صباحاً. بعد مرورنا من أول نقطة تفتيش حيث يجلس ضابط صهيوني وراء زجاج ملوحا بيده وطالباً بطاقات الهوية، توجهنا للمحكمة العسكرية والتي تبعد قرابة ٢٠ دقيقة سيراً على الأقدام. هناك، في ساحة الانتظار الخارجية، كانت تفصلنا غرفة تفتيش أخرى عن ساحة المحكمة الداخلية. أحد ضباط مصلحة السجون كان يصرخ على مسن فلسطيني قائلاً، "ارجع، ورا، رجع الجاكيت، ممنوع!". كما جرت العادة، يبث صراخ وأصوات الضباط على مسمع أهالي الأسرى من خلال سماعات مثبتة على جدران ساحة الانتظار. "لم أواجه هذه المشكلة الأسبوع الفائت"، أخبرني المسن الفلسطيني، وذهب ليتصل بمحامي ابنته لعله يساعده على الدخول لساحة المحكمة الداخلية. الضابط هو نفسه الذي يفحص بطاقات الأهالي للمرة الثانية من موقعه في غرفة محمية ومحاطة بزجاج، ومن ثم يرسل الأهالي إلى غرفة تفتيش قبل السماح لهم بالدخول لساحة المحكمة. بعد فترة من الزمن أتى دوري. خضعت للتفتيش، ومن ثم وصلت لساحة انتظار أخرى تفصلنا عن غرف المحاكم العسكرية، وهي أشبه بغرف مقطورة موزعة أفقياً في الساحة.
ا
خرجت من الغرفة رقم "٢" في محكمة عوفر العسكرية مصحوباً بمشاعر متناقضة وغضب شديد. كنت سعيداً لأني استطعت رؤية والدي، عبد الرازق فرّاج، المعتقل منذ العام ٢٠١٩ في سجن ريمون الواقع في جنوب فلسطين المحتلة، وذلك بالرغم من ظهوره للمحكمة عبر تقنية الاتصال عن بعد. هذه كانت المرة الأولى التي أرى بها والدي منذ بداية حرب الإبادة المستمرة منذ تشرين أول ٢٠٢٣. السعادة التي شعرت بها كانت ممزوجة بمشاعر غضب بفعل ممارسات ضباط مصلحة السجون داخل محكمة عوفر، وبعد رؤية ملامح التعب والإرهاق الشديد على وجه والدي وغيره من الأسرى، والإمعان الواضح في تعذيب وإذلال الأسرى وذويهم. ا
هذا القدر من المعلومات ليس جديد للقارئ، فمنذ بداية حرب الإبادة المستمرة، أقدمت مصلحة السجون مدعومة من جيش الاحتلال بشن حملة انتقام ضد الأسرى الفلسطينيين شملت سحب كافة مكتسباتهم وحقوقهم المنتزعة عبر عقود من النضال. وقد تضمنت الهجمة المستمرة إغلاق كافة الأقسام وزنازين الأسرى، الحد من كميات المياه والكهرباء المسموحة، منع العلاج والخروج إلى العيادات الخارجية، وقطع كافة أشكال التواصل بين الأسرى و"العالم الخارجي". ومنذ بداية حرب الإبادة المستمرة وحتى نهاية شهر آب، سلطات الاحتلال ما لا يقل عن عشر آلاف وثلاثمائة فلسطيني، بالإضافة إلى عدد غير معلوم حتى اللحظة من أسرى قطاع غزة، حيث تشير الإحصائيات إلى أن عدد الأسرى قد تجاوز ١٢٠٠٠ مقارنة بما يقارب ٥٢٠٠ أسيرة وأسير قبل معركة طوفان الأقصى. ا
هذه الزيارة لم تكن زيارتي الأولى لمحكمة عوفر. فمنذ اعتقال والدي الأخير وأسرتي ترتاد جلسات المحاكم المتعددة، ليس من أجل حضور إجراءات المحاكم الشكلية التي تنظر بالضرورة إلى الفلسطينيين كخطر، بل لأنها تشكل فرصة لرؤية المعتقلين عن قرب من دون الحاجة للوقوف خلف زجاج غرف الزيارة واستخدام أجهزة الاتصال المثبتة على طرفيها، على الأقل حتى إصدار الأحكام بحق الأسرى. ا
ومع بداية الحرب منعت سلطات الاحتلال زيارات الأهالي بشكل كامل، وسمحت ابتداء من ١٠ آذار ٢٠٢٤، لفرد واحد من عائلة المعتقلين لحضور جلسات المحاكم للمعتقلين حديثي الاعتقال وممن ما زالوا ينتظرون صدور الأحكام بحقهم. وفي ظل انقطاع التواصل مع الأسرى ومنع زيارات الأهالي المستمر، أصبح حضور جلسات المحاكم العسكرية الفرصة الوحيدة للقاء المعتقلين بأفراد أسرهم عبر تقنيات الاتصال عن بعد ولدقائق محدودة خاضعة دائما لما يراه قضاة الاحتلال العسكريين وضباط مصلحة السجون مناسباً. ا
كسر العزل ورسائل الأسرى
شكل الحد من التواصل بين الأسرى والعالم الخارجي أحد الوسائل المركزية للتضييق على الأسرى والإمعان في تعذيبهم. ومع بداية ترسيخ المنظومة السجنيّة الصهيونية، لجأت سلطات الاحتلال لأساليب متعددة لعزل الأسرى عن محيطهم الاجتماعي شملت منع زيارات الأهالي ومنع إدخال الرسائل والكتب وصولاً لمنع التواصل عبر الهواتف ومعاقبة الأسرى في حال نجحوا في تهريب الأجهزة الهاتفية. أما اليوم وقد تكثفت إجراءات عزل الأسرى، أضحى التواصل والاطمئنان على الأسرى شبه منقطع تماماً، حيث لم تصل أي معلومات عن عدد كبير من الأسرى من ذويهم منذ بداية الحرب. وتشكل هذه السياسات الممنهجة مصدر قلق إضافي لذوي الأسرى في ظل الأخبار الواردة عن أوضاع السجون والعنف الممارس داخلها والذي استشهد بفعله عشرات الأسرى ولا تزال جثامينهم محتجزة من قبل سلطات الاحتلال. ا
وبالرغم من التاريخ الطويل لهذه السياسات الساعية لفرض حالة تامة من العزلة والقمع، إلا أن الأسرى الفلسطينيين لطالما ابتكروا وسائل لرفض عنف المنظومة السجنيّة وإيصال صوتهم خارج قضبان الأسر. وقد شملت هذه الأساليب اللجوء للإضرابات عن الطعام والتي بفعلها أجبر الأسرى سلطات الاحتلال السماح لهم بإدخال الكتب والدفاتر والأقلام وتحسين ظروف زيارات الأهالي والحد من سياسات العزل والاعتقال الانفرادي. ويعد إضراب عام ١٩٧٠ في سجن عسقلان، والذي استشهد خلاله الأسير عبد القادر أبو الفحم بعد إطعامه قسرياً، من أبرز إضرابات الحركة الفلسطينية الأسيرة المطالبة بتحسين ظروف الاعتقال وكسر العزلة. ومن أبرز مطالب الأسرى خلال هذا الإضراب رفض مخاطبة السجّانين بـ "حاضر يا سيدي"، والسماح بإدخال الكتب والأقلام وكسر العزلة الثقافية والاجتماعية المفروضة على الأسرى. كما عمل الأسرى على تهريب الرسائل لذويهم وأصدقائهم خلال زيارات الأهالي أو عبر الأسيرات والأسرى المحررين. وبالتحديد، شكل تهريب ما يعرف في أوساط الأسرى بـ "الكبسولة" أحد الوسائل المركزية لتناقل المعلومات داخل الأحزاب السياسية وبين الأسرى وذويهم، وهي عبارة عن رسائل مكتوبة بخط صغير يتم لفها بحجم حبة دواء من أجل إيصالها خارج الأسر (أنظر صورة رقم ١). وفي تاريخ إضرابات الأسرى الفلسطينيين عن الطعام محطات عديدة طالب خلالها الأسرى بوقف سياسة العزل الانفرادي مثل الإضرابات المفتوحة عن الطعام عامي ٢٠١١ و٢٠١٢. ا
خرجت من الغرفة رقم "٢" في محكمة عوفر العسكرية مصحوباً بمشاعر متناقضة وغضب شديد. كنت سعيداً لأني استطعت رؤية والدي، عبد الرازق فرّاج، المعتقل منذ العام ٢٠١٩ في سجن ريمون الواقع في جنوب فلسطين المحتلة، وذلك بالرغم من ظهوره للمحكمة عبر تقنية الاتصال عن بعد. هذه كانت المرة الأولى التي أرى بها والدي منذ بداية حرب الإبادة المستمرة منذ تشرين أول ٢٠٢٣. السعادة التي شعرت بها كانت ممزوجة بمشاعر غضب بفعل ممارسات ضباط مصلحة السجون داخل محكمة عوفر، وبعد رؤية ملامح التعب والإرهاق الشديد على وجه والدي وغيره من الأسرى، والإمعان الواضح في تعذيب وإذلال الأسرى وذويهم. ا
هذا القدر من المعلومات ليس جديد للقارئ، فمنذ بداية حرب الإبادة المستمرة، أقدمت مصلحة السجون مدعومة من جيش الاحتلال بشن حملة انتقام ضد الأسرى الفلسطينيين شملت سحب كافة مكتسباتهم وحقوقهم المنتزعة عبر عقود من النضال. وقد تضمنت الهجمة المستمرة إغلاق كافة الأقسام وزنازين الأسرى، الحد من كميات المياه والكهرباء المسموحة، منع العلاج والخروج إلى العيادات الخارجية، وقطع كافة أشكال التواصل بين الأسرى و"العالم الخارجي". ومنذ بداية حرب الإبادة المستمرة وحتى نهاية شهر آب، سلطات الاحتلال ما لا يقل عن عشر آلاف وثلاثمائة فلسطيني، بالإضافة إلى عدد غير معلوم حتى اللحظة من أسرى قطاع غزة، حيث تشير الإحصائيات إلى أن عدد الأسرى قد تجاوز ١٢٠٠٠ مقارنة بما يقارب ٥٢٠٠ أسيرة وأسير قبل معركة طوفان الأقصى. ا
هذه الزيارة لم تكن زيارتي الأولى لمحكمة عوفر. فمنذ اعتقال والدي الأخير وأسرتي ترتاد جلسات المحاكم المتعددة، ليس من أجل حضور إجراءات المحاكم الشكلية التي تنظر بالضرورة إلى الفلسطينيين كخطر، بل لأنها تشكل فرصة لرؤية المعتقلين عن قرب من دون الحاجة للوقوف خلف زجاج غرف الزيارة واستخدام أجهزة الاتصال المثبتة على طرفيها، على الأقل حتى إصدار الأحكام بحق الأسرى. ا
ومع بداية الحرب منعت سلطات الاحتلال زيارات الأهالي بشكل كامل، وسمحت ابتداء من ١٠ آذار ٢٠٢٤، لفرد واحد من عائلة المعتقلين لحضور جلسات المحاكم للمعتقلين حديثي الاعتقال وممن ما زالوا ينتظرون صدور الأحكام بحقهم. وفي ظل انقطاع التواصل مع الأسرى ومنع زيارات الأهالي المستمر، أصبح حضور جلسات المحاكم العسكرية الفرصة الوحيدة للقاء المعتقلين بأفراد أسرهم عبر تقنيات الاتصال عن بعد ولدقائق محدودة خاضعة دائما لما يراه قضاة الاحتلال العسكريين وضباط مصلحة السجون مناسباً. ا
كسر العزل ورسائل الأسرى
شكل الحد من التواصل بين الأسرى والعالم الخارجي أحد الوسائل المركزية للتضييق على الأسرى والإمعان في تعذيبهم. ومع بداية ترسيخ المنظومة السجنيّة الصهيونية، لجأت سلطات الاحتلال لأساليب متعددة لعزل الأسرى عن محيطهم الاجتماعي شملت منع زيارات الأهالي ومنع إدخال الرسائل والكتب وصولاً لمنع التواصل عبر الهواتف ومعاقبة الأسرى في حال نجحوا في تهريب الأجهزة الهاتفية. أما اليوم وقد تكثفت إجراءات عزل الأسرى، أضحى التواصل والاطمئنان على الأسرى شبه منقطع تماماً، حيث لم تصل أي معلومات عن عدد كبير من الأسرى من ذويهم منذ بداية الحرب. وتشكل هذه السياسات الممنهجة مصدر قلق إضافي لذوي الأسرى في ظل الأخبار الواردة عن أوضاع السجون والعنف الممارس داخلها والذي استشهد بفعله عشرات الأسرى ولا تزال جثامينهم محتجزة من قبل سلطات الاحتلال. ا
وبالرغم من التاريخ الطويل لهذه السياسات الساعية لفرض حالة تامة من العزلة والقمع، إلا أن الأسرى الفلسطينيين لطالما ابتكروا وسائل لرفض عنف المنظومة السجنيّة وإيصال صوتهم خارج قضبان الأسر. وقد شملت هذه الأساليب اللجوء للإضرابات عن الطعام والتي بفعلها أجبر الأسرى سلطات الاحتلال السماح لهم بإدخال الكتب والدفاتر والأقلام وتحسين ظروف زيارات الأهالي والحد من سياسات العزل والاعتقال الانفرادي. ويعد إضراب عام ١٩٧٠ في سجن عسقلان، والذي استشهد خلاله الأسير عبد القادر أبو الفحم بعد إطعامه قسرياً، من أبرز إضرابات الحركة الفلسطينية الأسيرة المطالبة بتحسين ظروف الاعتقال وكسر العزلة. ومن أبرز مطالب الأسرى خلال هذا الإضراب رفض مخاطبة السجّانين بـ "حاضر يا سيدي"، والسماح بإدخال الكتب والأقلام وكسر العزلة الثقافية والاجتماعية المفروضة على الأسرى. كما عمل الأسرى على تهريب الرسائل لذويهم وأصدقائهم خلال زيارات الأهالي أو عبر الأسيرات والأسرى المحررين. وبالتحديد، شكل تهريب ما يعرف في أوساط الأسرى بـ "الكبسولة" أحد الوسائل المركزية لتناقل المعلومات داخل الأحزاب السياسية وبين الأسرى وذويهم، وهي عبارة عن رسائل مكتوبة بخط صغير يتم لفها بحجم حبة دواء من أجل إيصالها خارج الأسر (أنظر صورة رقم ١). وفي تاريخ إضرابات الأسرى الفلسطينيين عن الطعام محطات عديدة طالب خلالها الأسرى بوقف سياسة العزل الانفرادي مثل الإضرابات المفتوحة عن الطعام عامي ٢٠١١ و٢٠١٢. ا

صورة (١): كبسولات الأسرى التي تحتوي رسائل يتم تهريبها خارج المعتقلات الصهيونية. الصورة من كتابالصهيونية والتهديد بالاعتقال المستمر.ا
وبالإمكان تتبع تطور الوسائل المختلفة التي انتهجها الأسرى لضمان إمكانية التواصل مع ذويهم والعالم الخارجي، وآليات المراقبة المختلفة التي وضعتها سلطات الاحتلال، من خلال البحث في الرسائل التي استطاع الأسرى أن يخرجوها من أسرهم وبعيداً عن أعين السجانين ، أو من "الزمن الموازي" كما يطلق عليه الأسير الشهيد وليد دقة في كتاباته المتعددة حول المنظومة السجنيّة الصهيونية.ا
كغيرها من أساليب مقاومة السجّان، تحاط آليات تواصل الأسرى فيما بينهم ومع العالم خارج الأسر بنوع من السرية، وذلك لتستطيع أن تستمر وتتفادى محاولات سلطات الاحتلال في تتبعها وفرض هيمنة تامة على الأسرى. ويصعب الحديث، ولربما لا يجدر الحديث، والبحث في مصادر هذه الرسائل وآليات تناقلها، إلا أن تناولها كجزء من أرشيف يروي قصة الأسر ونضال الأسرى يشكل مصدراً هاماً لتتبع تطور الحركة الفلسطينية الأسيرة وتجارب الأسرى وصولاً إلى واقع السجن اليوم، والذي أصبح فيه عزل الأسير عن مجتمع الأسرى والمجتمع الخارجي أحد أبرز أساليب التعذيب والعنف المستخدم من سلطات العدو.ا
أتطرق فيما يلي إلى رسائل السجن الخاص بعائلتي وهو عبارة عن مجموعة من الرسائل المرسلة من وإلى والدي في سجنه منذ دخوله إلى دوامة الاعتقال المتكررة عام ١٩٨٥، وقد قمت بتجميع هذه الرسائل على مدار السنين. لا نجد في هذه الرسائل السعي للإبقاء على حالة "طبيعية" من الترابط العائلي بالرغم من القيود المتعددة فحسب، بل معلومات حول تفاصيل الأسر والتاريخ الطويل من مقارعة الأسرى لمحاولات العدو الصهيوني خلق حالة تامة من العزلة وكسر حاضنة الأسرى الاجتماعية.ا
قصص حاكتها الرسائل وانتظارها الدائم
لطالما سمعت من أصدقاء العائلة عن قصة ارتباط والداي خلال فترة اعتقال والدي الأولى من العام ١٩٨٥ حتى ١٩٩١، وهي الفترة التي تخللت انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وتبرز المنظومة السجنيّة الصهيونية في هذه القصة كمكان لممارسة وترسيخ سياسات المراقبة الصهيونية ومحاولات التحكم في مستقبل وحياة الفلسطينيين. وفي هذه القصة، وهي جزء من قصص أخرى عديدة ومشابهة، لم يستطع والداي عقد قرانهم بفعل الاعتقال الذي امتد لست سنوات. إلا أنهم حرصوا على التواصل بالرسائل المكتوبة، حيث كان يرسل جزء مننها عبر القنوات "الرسمية" التي كانت تخضع لرقابة مصلحة السجون العسكرية، بالإضافة الى تمرير رسائل أخرى خارج القنوات "الرسمية" أو خلال "الكبسولة" كما تمت الإشارة سابقاً. وفي قراءتي للرسائل المتعددة من وإلى السجن في منزل أسرتي، وجدت رسالة مرسلة إلى والدي خلال فترة اعتقاله الأولى. وفي هذه الرسالة نرى ختم إدارة سجن نابلس "ב | ס שכם"، وهو أحد السجون المستخدمة قبل الانسحاب الصهيوني المحدود من مراكز المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، مصحوباً بكلمة "נבדק" أي تم فحصها (أنظر صورة رقم ٢ والختم باللون الأزرق في أسفل الرسالة). وتقول والدتي في هذه الرسالة، "إن حياتنا بكل ما فيها من أفراح وأحزان، أمنيات وآمال هي جزء من الحياة العامة التي نحيا فيها. لذلك يا عزيزي كم أرغب أن يكون في لقاءاتنا مكان للحديث عن المستقبل. أرجو [ألا] تعتبر ذلك نزوحاً نحو الذاتية ولكنه مهم لي الحديث عنه".ا
وخلال فترة الاعتقال الأولى ذاتها، أقدم والداي على عقد خطبتهم وذلك من خلال تمرير خاتم الخطوبة بواسطة أقارب العائلة ممن سمح لهم بالزيارة، وانتظرا ما تبقى من وقت الاعتقال، أي ست سنوات، من أجل عقد قرانهم الضيق في حديقة منزل أسرة والدي في مخيم الجلزون للاجئين عام ١٩٩١، وذلك بسبب استمرار الملاحقة
كغيرها من أساليب مقاومة السجّان، تحاط آليات تواصل الأسرى فيما بينهم ومع العالم خارج الأسر بنوع من السرية، وذلك لتستطيع أن تستمر وتتفادى محاولات سلطات الاحتلال في تتبعها وفرض هيمنة تامة على الأسرى. ويصعب الحديث، ولربما لا يجدر الحديث، والبحث في مصادر هذه الرسائل وآليات تناقلها، إلا أن تناولها كجزء من أرشيف يروي قصة الأسر ونضال الأسرى يشكل مصدراً هاماً لتتبع تطور الحركة الفلسطينية الأسيرة وتجارب الأسرى وصولاً إلى واقع السجن اليوم، والذي أصبح فيه عزل الأسير عن مجتمع الأسرى والمجتمع الخارجي أحد أبرز أساليب التعذيب والعنف المستخدم من سلطات العدو.ا
أتطرق فيما يلي إلى رسائل السجن الخاص بعائلتي وهو عبارة عن مجموعة من الرسائل المرسلة من وإلى والدي في سجنه منذ دخوله إلى دوامة الاعتقال المتكررة عام ١٩٨٥، وقد قمت بتجميع هذه الرسائل على مدار السنين. لا نجد في هذه الرسائل السعي للإبقاء على حالة "طبيعية" من الترابط العائلي بالرغم من القيود المتعددة فحسب، بل معلومات حول تفاصيل الأسر والتاريخ الطويل من مقارعة الأسرى لمحاولات العدو الصهيوني خلق حالة تامة من العزلة وكسر حاضنة الأسرى الاجتماعية.ا
قصص حاكتها الرسائل وانتظارها الدائم
لطالما سمعت من أصدقاء العائلة عن قصة ارتباط والداي خلال فترة اعتقال والدي الأولى من العام ١٩٨٥ حتى ١٩٩١، وهي الفترة التي تخللت انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وتبرز المنظومة السجنيّة الصهيونية في هذه القصة كمكان لممارسة وترسيخ سياسات المراقبة الصهيونية ومحاولات التحكم في مستقبل وحياة الفلسطينيين. وفي هذه القصة، وهي جزء من قصص أخرى عديدة ومشابهة، لم يستطع والداي عقد قرانهم بفعل الاعتقال الذي امتد لست سنوات. إلا أنهم حرصوا على التواصل بالرسائل المكتوبة، حيث كان يرسل جزء مننها عبر القنوات "الرسمية" التي كانت تخضع لرقابة مصلحة السجون العسكرية، بالإضافة الى تمرير رسائل أخرى خارج القنوات "الرسمية" أو خلال "الكبسولة" كما تمت الإشارة سابقاً. وفي قراءتي للرسائل المتعددة من وإلى السجن في منزل أسرتي، وجدت رسالة مرسلة إلى والدي خلال فترة اعتقاله الأولى. وفي هذه الرسالة نرى ختم إدارة سجن نابلس "ב | ס שכם"، وهو أحد السجون المستخدمة قبل الانسحاب الصهيوني المحدود من مراكز المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، مصحوباً بكلمة "נבדק" أي تم فحصها (أنظر صورة رقم ٢ والختم باللون الأزرق في أسفل الرسالة). وتقول والدتي في هذه الرسالة، "إن حياتنا بكل ما فيها من أفراح وأحزان، أمنيات وآمال هي جزء من الحياة العامة التي نحيا فيها. لذلك يا عزيزي كم أرغب أن يكون في لقاءاتنا مكان للحديث عن المستقبل. أرجو [ألا] تعتبر ذلك نزوحاً نحو الذاتية ولكنه مهم لي الحديث عنه".ا
وخلال فترة الاعتقال الأولى ذاتها، أقدم والداي على عقد خطبتهم وذلك من خلال تمرير خاتم الخطوبة بواسطة أقارب العائلة ممن سمح لهم بالزيارة، وانتظرا ما تبقى من وقت الاعتقال، أي ست سنوات، من أجل عقد قرانهم الضيق في حديقة منزل أسرة والدي في مخيم الجلزون للاجئين عام ١٩٩١، وذلك بسبب استمرار الملاحقة

صورة رقم (٢): الرسالة لا تحتوي على تاريخ لكن صفحتها الأولى تشير إلى تاريخ ٢٠ – ١، وفي البحث في ثنايا الرسالة والمعلومات الموجودة فيها من الأرجح أن تكون قد كتبت في أوائل عام ١٩٨٦.ا
وفي أيار ١٩٩٤، بعد ما يقارب ثلاث سنوات من الإفراج عنه، اعتقل والدي مرة أخرى (أنظر بطاقة هوية معتقل من عام ١٩٩٤، صورة رقم ٣) وبدأت بذلك دوامة الاعتقال الإداري والتي يشبهها في إحدى كتاباته في أسطورة "سيزيف" الإغريقية. وفي الأسطورة يشار إلى سيزيف الذي أغضب الآلهة فتمت معاقبته بعذاب أبدي تمثل بإجباره على حمل صخرة من سفح جبل والصعود بها إلى أعلى، ليعيد الكرة مرة أخرى عند سقوط الصخرة متدحرجة إلى السفح، وبذلك يبقى في عذاب أبدي محاولاً بلا نتيجة الوصول إلى القمة مع صخرته. وكذلك حال دوامة الاعتقال الإداري التي لا تسعف من دخلها وتلقي به في حالة اعتقال وترقب اعتقال دائمة.ا
حال والدي كحال سيزيف مع صخرته، فقد استمرت الاعتقالات الادارية بحقه توالياً حيث أفرج عنه في العام ١٩٩٦ ليعتقل مرة أخرى لمدة ٥٢ شهراً بين العامين ٢٠٠٢ و٢٠٠٦، ومن ثم بدأ اعتقاله الإداري الثالث لمدة ٩ أشهر في عام ٢٠٠٨، والرابع لمدة ٨ أشهر بين العامين ٢٠١١ و٢٠١٢، والخامس لمدة ٢٠ شهراً بين العامين ٢٠١٤ و٢٠١٥، والسادس لمدة ١٤ شهراً بين العامين ٢٠١٧ و٢٠١٨. أما الاعتقال الأخير والمستمر منذ أيلول ٢٠١٩ فقد بدأ بإصدار أمر اعتقال إداري حول لاحقاً، أسوة بعدد من رفاقه ورفيقاته إلى "تحقيق عسكري" عنيف في مركز تحقيق المسكوبية في القدس المحتلة، وأصبح موقوفاً في انتظار "المحاكمة".ا
حال والدي كحال سيزيف مع صخرته، فقد استمرت الاعتقالات الادارية بحقه توالياً حيث أفرج عنه في العام ١٩٩٦ ليعتقل مرة أخرى لمدة ٥٢ شهراً بين العامين ٢٠٠٢ و٢٠٠٦، ومن ثم بدأ اعتقاله الإداري الثالث لمدة ٩ أشهر في عام ٢٠٠٨، والرابع لمدة ٨ أشهر بين العامين ٢٠١١ و٢٠١٢، والخامس لمدة ٢٠ شهراً بين العامين ٢٠١٤ و٢٠١٥، والسادس لمدة ١٤ شهراً بين العامين ٢٠١٧ و٢٠١٨. أما الاعتقال الأخير والمستمر منذ أيلول ٢٠١٩ فقد بدأ بإصدار أمر اعتقال إداري حول لاحقاً، أسوة بعدد من رفاقه ورفيقاته إلى "تحقيق عسكري" عنيف في مركز تحقيق المسكوبية في القدس المحتلة، وأصبح موقوفاً في انتظار "المحاكمة".ا

صورة رقم (٣): بطاقة هوية – معتقل لوالدي صدرت عام ١٩٩٤.ا
لم تتوقف الرسائل عن الخروج من الأسر خلال فترات الاعتقال الطويلة هذه، وذلك بالرغم من قمع مصلحة السجون وأساليب العنف والمراقبة المتعددة. ففي رسالة أخرى (أنظر صورة رقم ٤) مرسلة خلال فترة الاعتقال الإداري الأول بين أيار ١٩٩٤ وشباط ١٩٩٦، يكتب والدي، "زوجتي ورفيقتي الأعز من بؤبؤ العين: ثلاثة أشهر بالتأكيد بحساب الزمن ليست فترة طويلة فهي قياساً بالأشهر التي مضت في هذا الاعتقال لا تكاد تذكر، والاعتقال والاحتجاز في الأكياس الحجرية أشهر بل سنوات هو تضحية لا تكاد تذكر قياساً بتضحيات ومعاناة آخرين في سبيل أن نعيش بحرية وكرامة". ويكمل قائلاً، "آمالنا وطموحاتنا لن نسمح بفقدانها أبداً، بل هي ما يلهمنا الثبات والصمود في هذا الزمن المجافي ولذلك نتمسك بها كمصدر إلهام لمستقبل أكثر إشراقاً، ]فتشاؤم[ العقل يقابله تفاؤل الإرادة، ومرحلة الانحطاط هذه تشهد انحطاطا وتراجعاً في كل شيء وفقداناً لأشياء كثيرة جميلة، لكن يبقى بالتأكيد ما هو جميل ينتظرنا، فالشرف هذه الأيام هو شرف الضمير والثبات على المبدأ، والانحطاط ليس قدرنا، أو بكلمات أخرى لن تكون الهزيمة والحقبة الأمريكية – الصهيونية ومرحلة الانحدار هذه قدراً ملازماً لنا أبداً، فما دام هناك ذوو ضمائر حية سيكون النهوض بالتأكيد". الانحدار هذه قدراً ملازماً لنا أبداً، فما دام هناك ذوو ضمائر حية سيكون النهوض بالتأكيد".ا
وترمز "مرحلة الانحطاط" و "الحقبة الأمريكية – الصهيونية" هنا إلى الفترة التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، والتي عارضها العديد من الفلسطينيين لكونها وصفة استسلام المشروع التحرري الفلسطيني، وقد تعرضوا لاعتقالات ممنهجة من قبل السلطة الفلسطينية حديثة التأسيس ومن قبل أجهزة الأمن الصهيونية. وقد شملت هذه المرحلة ما سمي "بإعادة انتشار" قوات الجيش الصهيوني خارج مراكز المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وآمال الأسرى بالتحرر من الاعتقال واعتقاد جزء منهم بأن دوامة الاعتقال لربما تكون قد انتهت للأبد. إلا أن الواقع – وهو ذاته المستمر ليومنا هذا – لم يجر كما ظن المفاوضون الفلسطينيون حينما تنازلوا عن حقوق الفلسطينيين التاريخية في مقابل سيادة مسلوبة ولصالح مشروع استعماري لن يهزم إلا من خلال مقاومته. فبالرغم من إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى على مراحل عدة، وضمن شروط استعمارية من ضمنها التوقيع على وثائق "تنبذ الإرهاب"، إلا أن الكيان الصهيوني لم يتوقف عن اللجوء لسياسات الاعتقال والإمعان في تعذيب الأسرى كأحد الوسائل المركزية لقمع مقاومة الفلسطينيين للنظام الاستعماري. وما تزال "الحقبة الأمريكية – الصهيونية" تحاول فرض تأثيرها وكيّ وعي الفلسطينيين في وقتنا الحالي مقابل مشروع التحرر المناهض للاستعمار والمستمر منذ عقود.ا
وترمز "مرحلة الانحطاط" و "الحقبة الأمريكية – الصهيونية" هنا إلى الفترة التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، والتي عارضها العديد من الفلسطينيين لكونها وصفة استسلام المشروع التحرري الفلسطيني، وقد تعرضوا لاعتقالات ممنهجة من قبل السلطة الفلسطينية حديثة التأسيس ومن قبل أجهزة الأمن الصهيونية. وقد شملت هذه المرحلة ما سمي "بإعادة انتشار" قوات الجيش الصهيوني خارج مراكز المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وآمال الأسرى بالتحرر من الاعتقال واعتقاد جزء منهم بأن دوامة الاعتقال لربما تكون قد انتهت للأبد. إلا أن الواقع – وهو ذاته المستمر ليومنا هذا – لم يجر كما ظن المفاوضون الفلسطينيون حينما تنازلوا عن حقوق الفلسطينيين التاريخية في مقابل سيادة مسلوبة ولصالح مشروع استعماري لن يهزم إلا من خلال مقاومته. فبالرغم من إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى على مراحل عدة، وضمن شروط استعمارية من ضمنها التوقيع على وثائق "تنبذ الإرهاب"، إلا أن الكيان الصهيوني لم يتوقف عن اللجوء لسياسات الاعتقال والإمعان في تعذيب الأسرى كأحد الوسائل المركزية لقمع مقاومة الفلسطينيين للنظام الاستعماري. وما تزال "الحقبة الأمريكية – الصهيونية" تحاول فرض تأثيرها وكيّ وعي الفلسطينيين في وقتنا الحالي مقابل مشروع التحرر المناهض للاستعمار والمستمر منذ عقود.ا

صورة رقم (٤): الرسالة لا تحتوي على تاريخ لكن نظراً للحديث حول تمديد الاعتقال الإداري لمدة ثلاثة أشهر (حتى ٢٥ – ٢)، وقرب الانتهاء من عملية "إعادة الانتشار" والانتخابات الفلسطينية فمن الأرجح أن تكون قد كتبت في تشرين الثاني ١٩٩٥..
وفي رسالة أخرى (أنظر صورة رقم ٥)، يخاطب والدي والدتي قائلاً، "تمنيت من الأعماق أن يكون لقاءنا السابق عبر الأسلاك الشائكة اللعينة هو الأخير، لكن السفلة أبوا إلّا أن يعبروا مجدداً عن سفالتهم وحقدهم علينا، لا بأس فقرار التمديد يراكم في نفوسنا المزيد والمزيد من الحقد الثوري على سفلة القرن العشرين، ومصدر فخر لنا أن تنال حقد تلك العينة من البشر، وصدقيني أيتها الحبيبة أنه ورغم الألم الناجم عن التجديد واستمرار احتجازي ستة أشهر أخرى في ظروف سيئة وعلى مختلف المستويات من حيث تركيبة السجن هذه الأيام أو مكان احتجازنا أو الحالة العامة السلبية خارج الأسلاك الشائكة... الخ، فإنه ليس أمامنا من خيار سوى أن نواجه حقد النازيين الجدد على طريقة المتشائل في رواية إميل حبيبي حيث قال له صديقه معزياً إياه بوفاة أمه "أمك توفت، البقية بحياتك"، رد المتشائل قائلاً، "بسيطة، المهم ممتش أبوي" وأنا قلت حين علمت بقرار التمديد "بسيطة، المهم مش سنة". يعني بكلمات أخرى يا حبيبتي ليس أمامنا من خيار في هكذا ظروف سوى التماسك والتحدي بقوة". ويختم الرسالة قائلاً، "أرجو أن تحضري في الزيارة القادمة ملابس داخلية، وشرشف للفرشة، دخان امبريال، حليب نسكافية، “completa”، وسماعة راديو / تهريب ليس مع الأغراض". لا تحتوي هذه الرسالة على تاريخ محدد، إلا أن محتوى الرسالة والتفاصيل الإضافية المذكورة فيها تشير إلى إخراجها من الأسر عام ١٩٩٥.ا


صورة رقم (٥): أجزاء من رسالة من الأسر أخرجت خلال اعتقال والدي الإداري بين العامين ١٩٩٤ – ١٩٩٦.
وكما هو ملاحظ في الصورة رقم ٤ و٥، لا تحتوي هذه الرسائل على ختم يشير لمرورها عبر "رقابة" إدارة السجن. فكلتا الصورتين أعلاه جزء من رسائل أوسع مكتوبة على ورق قديم وبخط صغير جداً من أجل استغلال المساحة المتاحة، وما زالت هذه الرسائل تحمل آثار اللف والتغليف المستخدم لتهريبها من المعتقلات على شاكلة "كبسولات" تتخطى وسائل الرقابة السجنيّة. فكما تشير هذه الرسائل المكتوبة قبل ما يقارب ٣٠ عاماً، ابتكر الأسرى قنوات تواصل سعت لكسر حالة العزلة وانعدام التواصل المستمر مع ذويهم، والتي شملت تمرير الرسائل مع الأسرى المحررين أو خلال زيارات الأهالي. وتشير الرسائل المتعددة بحوزتي إلى عزوف الأسرى وذويهم عن تمرير الرسائل عبر قنوات إدارة السجون، وهي بالضرورة قنوات لم تعد متاحة أساساً في مرحلة ما، وابتكارهم وسائل سعت لتخطي شتى أنماط المراقبة والضبط الصهيونية.ا
وفي اعتقاله الإداري الثاني عام ٢٠٠٢، استمرت الرسائل بالوصول خاصة نظراً لفترة الاعتقال الطويلة التي امتدت ٥٢ شهراً، وبسبب المضايقات المستمرة على زيارات الأهالي المفروضة من قبل إدارة السجون. وفي رسالة أخرى (أنظر صورة رقم ٦) يخاطب والدي أطفاله الصغار حينها، أنا وأخي وديع، محاولاً شرح ظروف الاعتقال وانعدام التواصل المفروض من قبل إدارة السجون قائلاً، "اشتقت كثيراً لكم، خاصة وأننا لم نتحدث منذ اكثر من أسبوعين، مشتاق جداً لسماع أخباركم والحديث معكم، هنا إدارة السجن والشرطة وضعوا أجهزة تشويش قرب الخيام التي ننام فيها وذلك حتى يمنعونا من الحديث مع أهلنا لأنهم يعتبرون أن البلفونات ممنوعة في السجن، قد نتمكن في الأيام القادمة من حل المشكلة، وبالتالي يصبح من الممكن أن أتحدث معكم ولو مرة في الأسبوع. طبعاً أنا واحد من مجموعة من المعتقلين المحظوظين حيث نزور مرة في الشهر، وبالتالي أراكم ونتحدث مع بعضنا البعض، والأكيد يا أعزائي أن السجن لا يغلق أبوابه على أحد أبداً".ا
وفي اعتقاله الإداري الثاني عام ٢٠٠٢، استمرت الرسائل بالوصول خاصة نظراً لفترة الاعتقال الطويلة التي امتدت ٥٢ شهراً، وبسبب المضايقات المستمرة على زيارات الأهالي المفروضة من قبل إدارة السجون. وفي رسالة أخرى (أنظر صورة رقم ٦) يخاطب والدي أطفاله الصغار حينها، أنا وأخي وديع، محاولاً شرح ظروف الاعتقال وانعدام التواصل المفروض من قبل إدارة السجون قائلاً، "اشتقت كثيراً لكم، خاصة وأننا لم نتحدث منذ اكثر من أسبوعين، مشتاق جداً لسماع أخباركم والحديث معكم، هنا إدارة السجن والشرطة وضعوا أجهزة تشويش قرب الخيام التي ننام فيها وذلك حتى يمنعونا من الحديث مع أهلنا لأنهم يعتبرون أن البلفونات ممنوعة في السجن، قد نتمكن في الأيام القادمة من حل المشكلة، وبالتالي يصبح من الممكن أن أتحدث معكم ولو مرة في الأسبوع. طبعاً أنا واحد من مجموعة من المعتقلين المحظوظين حيث نزور مرة في الشهر، وبالتالي أراكم ونتحدث مع بعضنا البعض، والأكيد يا أعزائي أن السجن لا يغلق أبوابه على أحد أبداً".ا

صورة رقم (٦): رسالة للأطفال من الأسر، من دون تاريخ، خلال فترة الاعتقال ٢٠٠٢ – ٢٠٠٦.
وتشير أحد الرسائل المرسلة من متضامن فنلندي إلى والدي عام ٢٠٠٦ إلى استقبال الأسرى الفلسطينيين لبعض الرسائل عبر البريد (أنظر صورة ٧)، إلا أنه لا توجد أي رسائل مرسلة من قبل الأسرة أو الأصدقاء عبر هذه الوسيلة. وهذا يشير ليس فقط إلى عزوف الأسرى وذويهم عن استخدام وسائل التواصل الخاضعة لرقابة العدو الصهيوني، بل أيضاً لانتهاجهم قنوات تواصل خاصة بهم نجحت في تخطي شتى أجهزة المراقبة والضبط. فقد استطاعت الحركة الأسيرة أن توصل إنتاجات الأسرى الفكرية والأدبية خارج الأسر لتشكل على مدار عقود ما بات يعرف في "أدب السجون الفلسطيني". وفي أدب السجون الفلسطيني أمثلة كثيرة على قدرة الأسرى الفلسطينيين تخطى أنظمة المراقبة الصهيونية، والابتكار المتواصل لوسائل قادرة على الحفاظ على إنتاجات الأسرى الفكرية والأدبية وإيصالها خارج قضبان الأسر رغم تعدد القيود ووسائل المراقبة السجنيّة.ا

صورة رقم (٧): مغلف الرسالة المرسلة من فنلندا إلى سجن النقب في جنوب فلسطين المحتلة.
إرادة تطال عنان السماء
في العام ٢٠١٢، خاض والدي إضراباً عن الطعام استمر لثلاثة أسابيع مع عدد آخر من رفاقه مطالبين بإلغاء سياسية العزل الانفرادي والحد من سياسة الاعتقال الإداري والسماح بالزيارات لأسرى غزة. وكما خلال غيرها من الإضرابات عن الطعام، انتهجت مصلحة السجون وسائل عنيفة لقمع الأسرى ومحاولة كسر إضرابهم شملت عزلهم بشكل كامل ومنع أي نوع من التواصل مع ذويهم ومحاميهم. إلا أنه خلال هذا الإضراب بالتحديد، لجأ والدي إلى إخراج رسالة مع أحد ممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر (أنظر صور رقم ١٠) يخاطب فيها أسرته، وكتب الرسالة مستخدماً نموذج مقدم من الصليب الأحمر. وفي هذه الرسالة نرى نموذجاً أخر للتواصل، أي عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لجأ اليه الأسرى الفلسطينيون في محاولة طمأنة ذويهم، ورفع معنوياتهم، والإبقاء على حلقة التواصل بالرغم من السياسات الفاشية للعدو الصهيوني.ا
وفي هذه الرسالة يقول والدي من عزله في سجن عوفر، "أستغل الفرصة المتاحة اليوم للكتابة لكم، أمل أن ]تكونوا[ بخير وصحة جيدة، خاصة بسولة، لم أسمع أخباره. وديعو، آمل أن تكون الجامعة والامتحانات على ما يرام، لموسة، آمل أن تهتمي بصحتك وتكوني كما عهدتك دوماً. بالنسبة لي أخباري جيدة، اليوم هو الرابع عشر للإضراب. أواجه ضعف الجسم بالإرادة التي تنال عنان السماء، لا تقلقوا علي، المهم صحتكم وأخباركم، أرجو أن تطمئنوني على باسل. تحياتي للحجة وللجميع. أنتم في القلب دوماً، بل القلب ينبض بكم. أعانقكم بحرارة".ا

صورة رقم (١٠): رسالة مرسلة من سجن عوفر عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر خلال إضراب عن الطعام عام ٢٠١٢.
في انتظار حرية الأرض والإنسان
ما سبق من سرد لوسائل التواصل التي استخدمها الأسرى الفلسطينيون خلال سنوات اعتقالهم الطويلة هو جزء بسيط مما استطاع الأسرى اللجوء إليه في سعيهم الدائم لكسر محاولات السجّان عزلهم. وتشكل هذه الرسائل جزء من أرشيف غير مكتمل لتجربة الأسر الفلسطينية، حيث ما زالت معاناة الاعتقال مستمرة، وما زال السجّان يستخدم شتى الوسائل لقمع الأسرى وعزلهم عن العالم الخارجي بشكل كامل. وتسلط رسائل الأسرى الضوء على تجربة نضالية طويلة لطالما قارعت السجّان وسعت للانعتاق من الأسر – ذهنياً وفعلياً.ا
أما اليوم، وفي ظل الهجمة على الأسرى وحرب الإبادة المستمرة، فقد منعت مصلحة السجون كل أشكال التواصل مع الأسرى، بل وفرضت حالة من العزلة التامة ضمن الاعتداءات المستمرة عليهم. فمنذ بداية الحرب المستمرة، بالإضافة إلى منع الزيارات والتضييق على زيارات المحامين، منع ممثلو اللجنة الدولية للصليب الأحمر من زيارة الأسرى الفلسطينيين وبالتالي حرم الأسرى من كل وسائل التواصل "الرسمية" وتلك المبتكرة بفعل الإرادة.ا
وفي ظل انقطاع الرسائل وإمكانية التواصل مع الأسرى يبقى الأمل موجود في حرية قريبة تتخطى، بل وتحطم أسلاك وجدران المستعمَرة، والتي سعت عبر عقود لتحويل الاعتقال إلى حالة دائمة وملازمة للفلسطينيين داخل وخارج مساحة السجن الصغير. وعدم الحديث عن ابتكار الأسرى لوسائل تواصل مع ذويهم منذ بداية الحرب لا يعني بالضرورة غيابها، فالنظر إلى تاريخ نضال الأسرى الطويل - وقد حاولت أن أشير لجزء بسيط منه - يعلّمنا بالضرورة أن السجون الصهيونية، كغيرها من سجون القمع عالمياً، لن تستطع إحكام الإغلاق وعزل الأسرى والأسيرات بشكل كلي بالرغم من أنماط السيطرة الحديثة وإمكانية تطويرها الدائمة.ا
وفي تحرير الأسرى الستة لأنفسهم من سجن جلبوع الذي كان يعرف سابقاً "بالخزنة" في أيلول ٢٠٢١، وفي كسر واختراق الجدران العسكرية المحيطة بقطاع غزة مع كل أنظمة مراقبتها التكنولوجية في السابع من تشرين الأول ٢٠٢٤، إشارة بأن السجون لا تغلق أبداً أبوابها على أحد ليس لرغبة السجّان في فتحها، بل لسعي المناضلات والمناضلين الدائم للحرية.ا
الحرية لأسرى الحرية الفلسطينيين ولكل من يناضل ضد كافة أشكال الاستعمار والقهر عالمياً.ا
Basil Faraj
Basil Farraj is an Assistant Professor at the Department of Philosophy and Cultural studies, Birzeit University. He is currently working on a research project that explores the global circulation of carceral practices, funded by the Arab Council for the Social Sciences (ACSS) and hosted by the Institute for Advanced Study in the Global South at Northwestern University in Qatar (IAS_NUQ). Basil’s research addresses the intersections of memory, resistance, and art by prisoners and others at the receiving end of violence. Basil has conducted research in several countries including Chile, Colombia, and Palestine.
︎ ︎
Basil Farraj is an Assistant Professor at the Department of Philosophy and Cultural studies, Birzeit University. He is currently working on a research project that explores the global circulation of carceral practices, funded by the Arab Council for the Social Sciences (ACSS) and hosted by the Institute for Advanced Study in the Global South at Northwestern University in Qatar (IAS_NUQ). Basil’s research addresses the intersections of memory, resistance, and art by prisoners and others at the receiving end of violence. Basil has conducted research in several countries including Chile, Colombia, and Palestine.
︎ ︎



